بهاء يحبّ فلسطين
أيام قليلة فقط لم نتكاتب أنا وصديقي بهاء في قطاع غزة. فعلى مرّ 469 يوماً من الحرب التي ستحطّ أوزارها قريباً، على الأقل بشكلها الذي كان، كان يكتب لي وأكتب له.
أرشيف محادثاتنا ربما يشكّل ذاكرة موازية لحرب الإبادة في غزة. نجا بهاء، ونجوت معه. كنت في هذا التواصل اليومي أعالج شيئاً فيّ، كي لا يموت الإحساس البشع في التقصير، فثمة جزء من الشعب يقتل، والبعض الآخر بمنأى عن الموت. ولعل الأنانية وحب الحياة تقتضي من المرء أن يتمسك بالحياة أكثر من اللازم. فلا يكون شعوره صادقاً تماماً في الرغبة بأن يكون الفلسطيني في غزة.
كان بهاء صديقي القريب في غزة، يشعر بالموت كل يوم، يناديه أحياناً، وهو جريء كفاية للكتابة عن كآبته ورغبته في الانتحار الذي جرّبه مراراً. كنت أزجره، أردّه عن رغبته، كنت أفعل ما أمكن كي لا يذهب إلى خياره. وكنت أعرف في داخلي حبه الكبير للحياة، لكن كانت محادثاتنا هذه تعطينا شعوراً جيداً، بإمكانية الحياة.
بهاء لا يريد الانتحار فعلاً، ولا يريد الموت قصفاً أو قنصاً. صديقي الحبيب يريد المشاهدة حتى النهاية، ويريد أن يكون جزءاً من المشهد، يريد أن يحرّر، وأن يتحرّر، ويريد أن يبني فلسطين، ويساعد أبناء فلسطين. بهاء يتواطؤ مع غزة، كي لا تموت فيموت معها، وإن ظل حياً. ورغم أنه يرى أن شيئاً ما في غزة قد مات، إلا أن الباقي فيها كفيل بأن يحيي ما مات فيها. صحيح أنه لن يُرجِع الشهداء، ولن يُشفي الجرحى، لكنه سيوقف قلوب الفلسطينيين عند غزة، للتعلم، لأخذ القداسة، للانحناء، وإكمال الطريق نحو باقي المدن، وباقي العواصم التي عليها أن تتقدّس بغزة، كي تكون حواضر للمستقبل.
خلال الحرب، جاع بهاء مرات، كان ما يصبّره على آلام المعدة، صبر أمه، وقلبها الذي يجعل قلبه أجمل، وروحها التي تساعده على النجاة في كل مرة يريد فيها ظلم نفسه. أمه قدّيسته. ولم تصل بإحداهن أن وصلت لديه لكعب حذائها، ولو أن واحدة فعلت، لنالت قلبه الطاهر. ومع ذلك، يفكر كل يوم بامرأة جديدة، حتى والقصف ينهال على غزة، كان يحب بهاء أن يعيش الحب، وأن يشمّ رائحة امرأة. لكن كلّما قابل فتاة أعجبته، فكر كيف عليه أن يساعدها، أن يؤمن لها صحن أرز مثلاً لتأكل، وبهاء نفسه لا يأكل.
وفي يوم قريب، استيقظت على رسالة منه، يصبّح عليّ بطريقة مختلفة، يستخدم كلمات أغنية «الحلوة دي قامت تعجن في البدرية»، قلت في نفسي، ثمة ما يحدث. تكاتبنا، وإذا به يخبرني، بأن أحداً أوصل لبيته دجاجة، وقررت أمه إعداد فتة دجاج، كي تكفي الكل، «يقبرني الله» هكذا علق بهاء على خبره، وهكذا ربما كان حال أي فرد في غزة، تناول طعاماً مختلفاً عن طعام الحرب. وهل للحرب طعام، نعم، ما تيسّر من أكل قد لا يتيسّر غالباً.
قبل مدة قصيرة، استشهدت شقيقة بهاء، خفت عليه كثيراً، وخفت أن يدخل في وضع يصعب عليّ مساندته. مرت أيام قليلة، عاد بهاء بحيويته، بأفكاره المجنونة، آخرها يريد أن يدرس علم النفس، ليساعد الشعب الفلسطيني كله. عاد بهاء، ولمّا عاد، آمنت بإمكانية أن نعود.
وأخيراً، صديقي بهاء، يوم بدأت تتوارد أخبار إعلان وقف إطلاق النار، سألني أن نلتقي في القاهرة بعد توقّف الحرب. قلت له أتمنى!
فاتني القول، من عرّفني على بهاء، صديق آخر من غزة، اسمه مصعب، ويعيش بعيداً. نتكلم معاً بين حين وآخر. يسألني عن بهاء، وأسأله عن بهاء. وكلانا يعرف أن بهاء يمنحنا طاقة للحياة، في ظل الموت الذي يعيشه بهاء، وأكثر من مليونَي إنسان في قطاع غزة.
■ ■ ■
لست متشائماً في طبعي، كذلك لست من المتفائلين، وإن عبّرت عن نفسي كمتشائل، سأجافي حقيقة حالي. أحاول أن أكون واقعياً في توصيف الأمور، من دون فلسفة كثيرة في السياسة. ولذلك حين كانت الأخبار تتوارد قبل أيام عن احتمال توقف الحرب، وبعد ذلك حين بدأت المؤتمرات الصحافية تخرج تباعاً، كنت أشعر بالفرح، وحينها تذكرت طفولتي وفرحي في اليوم السابق للعيد. هكذا شعرت.
وانتبهت بإمعان لخطاب خليل الحية، في ذلك المساء، وتتبعت قوله. فكانت كلمته تمشي على صراط الشعب المستقيم، فلم تحد عن إحساسه، فلم يفعل كما تفعل فصائل المقاومة عادة بعد كل جولة، بإعلان انتصار أو انتصار مؤزر، أو انتصار يفوق انتصارات سابقة. حسناً فعل خليل الحية، فقد انتبه إلى قلوب أهل غزة. وهذا ما عليه فعله.
لكن ما يؤذي، هو بعض المعلّقين والمحلّلين الذين يخرجون على الشاشات، أحدهم يعلن انتصاراً، وآخر يشتم. وكل هذا من دون أدنى مراعاة لأهل غزة، وللفلسطينيين الذين يتحسّسون قضيتهم ومصيرها. فضلاً عن مواقع إلكترونية، تكتب «عناوين» الانتصارات، وما إلى ذلك، وتؤوّل كلام حماس «على كيفها»، وأقدّر ما حلّ بوسائل الإعلام هذه، فهي معتادة على معجم جاهز بعد المعارك، لكن هذه الحرب أتت بجديد جديد، فلم يسعفها المعجم، هذا إن بحثت، فاستعانت بالجاهز من لغة خشبية، لا تصلح، تحديداً وصاحب الشأن، إن كان وحده صاحب الشأن، لم يعلن أنه انتصر.
ويبقى «الأصدقاء» على وسائل التواصل الاجتماعي، أولئك الذين يعلنون مجاناً، ما طاب لهم من كلام، بعضه عجب عجاب، وبعضه معلوك، وآخر ليس من عالمنا. بينما هؤلاء لا ينتبهون لأهل غزة الذي يتمكنون من الوصول إلى الإنترنت كل وقت، ويصلهم هذا الكلام. في أحد «البوستات» قرأت انتصاراً خالصاً، هاجم صاحبه كل واحد كتب في عكس اتجاهه، غامزاً ولامزاً «أنت فتحاوي» بمن فيهم أهل غزة، الذين كانوا بعد إعلان وقف إطلاق النار يُقصَفون، وقد يُستشهَدون! هؤلاء بينما يموتون، أيهمّهم «فتح» أو «حماس؟».
■ ■ ■
بالعودة إلى صديقي بهاء، هو لا يحبّ الفصائل لكنه يحبّ فلسطين.
صحافي فلسطيني*